كان يُفترض أن يكون UFC 321 لحظة تاريخية في مسار الفنون القتالية المختلطة، ليلة تضع أبوظبي في قلب المشهد العالمي، وحدثًا يُعيد رسم خريطة الوزن الثقيل عبر مواجهة طال انتظارها بين Tom Aspinall وCiryl Gane. لكن ما كان يُروَّج له كـ”ملحمة رياضية” تحوّل تدريجيًا إلى مؤشر على خلل بنيوي في تنظيم الأحداث الكبرى، وتناقض صارخ بين ما يُعرض على الورق وما يحدث خلف الكواليس.
أولاً: البروباغندا قبل الحقيقة
اللغة التي اعتمدتها وسائل الإعلام الفرنسية مثل ActuMMA كانت مليئة بالوعود:
“Un grand spectacle”, “le combat le plus attendu de l’année”, “notre premier champion incontesté français”.
هذا الخطاب لا يكتفي بالترويج للحدث، بل يصنع سردية وطنية حول “الفرنسي الذي سيصبح أول بطل غير منازع في تاريخ الـUFC”. لكن خلف هذه الحماسة الإعلامية، لم يكن أحد يتساءل: هل التنظيم نفسه قادر على احتضان هذا الحدث؟
فما بين الرهانات المالية الضخمة، والعقود مع RMC Sport، والضغط التسويقي من الشركة الأمريكية، تحوّل الحدث من منافسة رياضية إلى منتج ترويجي محكوم بالربح أكثر من المصداقية الرياضية.
ثانياً: Ciryl Gane بين الحلم الوطني ومتلازمة “الفرصة الأخيرة”
المقاتل الفرنسي Ciryl Gane دخل هذا النزال وكأنه في مواجهة مع الزمن. ثلاث محاولات على اللقب، وكل مرة يقترب ثم يتراجع. بعد خسارته أمام Francis Ngannou بقرار الحكام، ثم أمام Jon Jones بالاستسلام، باتت هذه المواجهة أمام Aspinall بمثابة الفرصة الأخيرة لإنقاذ مسيرته من التكرار الدرامي للفشل.
غير أن الصورة التي رسمها الإعلام الفرنسي عنه كـ”الوجه النظيف للـMMA” و”الولد الطيب” اصطدمت بواقع آخر: أن البطولة لا تُمنح للنوايا الجيدة، بل لمن يملك الغريزة القتالية القادرة على كسر النمط.
في المقابل، كان البريطاني Tom Aspinall يدخل الحدث بثقة البطل، دون الحاجة إلى خطاب بطولي أو تبريرات وطنية. شخصيته الباردة ونمطه الحاسم جعلاه أقرب إلى الآلة الهادئة التي تقتل بصمت. وهذا التباين بين “الفرنسي الحالم” و“الإنجليزي البارد” جعل من النزال أكثر من مجرد مواجهة جسدية؛ بل صراعًا بين فلسفتين في القتال.
ثالثاً: أبوظبي، التنظيم، وصراع الصورة
اختيار Etihad Arena لم يكن عشوائيًا. فالإمارات سعت منذ سنوات إلى تثبيت موقعها كعاصمة للأحداث القتالية الكبرى، واستثمرت في UFC باعتبارها جزءًا من استراتيجيا القوة الناعمة.
لكن المفارقة أن الحدث الذي رُوِّج له كرمز للانضباط والتنظيم الدقيق انتهى إلى الإلغاء والارتباك، في مشهد يعيد طرح السؤال حول من يتحكم فعلاً في صناعة القرار داخل UFC: هل هي الرؤية الرياضية أم الحسابات التسويقية؟
تأجيل النزال ثم إلغاؤه لاحقًا لم يكن مجرد خلل في البرمجة، بل إشارة إلى هشاشة البنية التنظيمية حتى في أضخم المؤسسات القتالية. كيف يمكن لحدث يُدار بملايين الدولارات أن يسقط بهذه البساطة؟ ومن يتحمل مسؤولية تحويل “البطاقة الأقوى في العام” إلى إحباط جماعي للجمهور والمتابعين؟
رابعاً: بين التسويق والروح الرياضية
حتى قائمة النزال (La carte) تكشف التناقض ذاته. أسماء لامعة مثل Umar Nurmagomedov، Mackenzie Dern، وAlexander Volkov، لكن جوهر الحدث كان محصورًا في “Aspinall vs Gane”. وكأن باقي المقاتلين مجرد ديكور لتغطية المخاطر المحتملة في المواجهة الرئيسية.
هذه الطريقة في بناء البطاقة تعكس ثقافة الـUFC الحديثة: تحويل كل حدث إلى Main Event-centric show، حيث يصبح الباقي هامشًا تجاريًا، لا قيمة رياضية له إلا بمقدار ما يخدم الصورة الكبرى.
خامساً: من “أين تشاهد” إلى “ما الذي نرى فعلاً؟”
حين تُخصص فقرات كاملة لشرح “كيف تشاهد” أكثر مما تشرح “ماذا يحدث”، فذلك يعني أن المحتوى فقد روحه الرياضية.
صفحات الإعلان عن “horaires et comment regarder” بدت وكأنها حملات تسويقية لقنوات البث أكثر من كونها مواد رياضية. لقد انتصرت الصناعة على الرياضة، وأصبحت المعركة على الشاشات أهم من المعركة في القفص.
خلاصة تحليلية
في النهاية، لم تكن UFC 321 حدثًا رياضيًا بقدر ما كانت مرآةً مكبّرة لصناعة رياضية مأزومة:
-
تعيش على الأسطورة أكثر مما تعيش على الحقيقة.
-
تبيع الترقّب أكثر مما تقدّم الأداء.
-
وتخشى الفشل أكثر مما تؤمن بالقتال.


